
أبوظبي, 15 مارس 2024
بعد إعلان رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، حفظه الله، عام 2023 "عاماً للاستدامة"، ومع استعداد الدولة لاستضافة أكبر منتدى للمناخ في العالم (كوب 28) في مدينة إكسبو بدبي، أصبحت أشجار القرم في دائرة اهتمام المجتمع نظرًا للدور الذي تلعبه بوصفها حلّاً قائماً على الطبيعة يمكن أن يساعد في مكافحة تغير المناخ والحفاظ على الطبيعة، ما يساهم في التكيّف مع آثار تغير المناخ. يرجع ذلك إلى القدرة التي تتميز بها هذه الأشجار على امتصاص الكربون، أو إذا شئنا استخدام المصطلح الفني الصحيح: "عزله"، بحيث تحدّ من فرص دخوله إلى الغلاف الجوي ما يسفر عن ذلك من ارتفاع لدرجة حرارة الكوكب.
إذا قدت سيارتك عبر أبوظبي، فسوف ترى أنّ الخط الساحلي للجزيرة يزخر بملايين أشجار القرم. ذلك لأن جهود تأهيل أشجار القرم في أبوظبي تعود إلى ما قبل سبعينات القرن الماضي، ما يجعل الإمارة تتبوّأ مكانةً رائدة عالمياً في جهود إعادة تأهيل هذه النظم البيئية القيّمة.
إرث الشيخ زايد
أولى المغفورُ له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، مؤسس دولة الإمارات العربية المتحدة، المعروف أيضاً بكونه رجل البيئة الأول في الدولة، اهتماماً كبيراً بالبيئة البحرية والساحلية، حيث بدأ في زراعة أولى غابات لأشجار القرم على طول سواحل جزر إمارة أبوظبي وبرّها الرئيسي. ومن خلال بصيرته الفذة ومعرفته العميقة بالبيئة المحلية، وجه الشيخ زايد بتنفيذ مشاريع إعادة تأهيل أشجار القرم في الإمارة وأشرف عليها بشكل مباشر.
بالنسبة للشيخ زايد، كانت شجرة القرم تحظى بقيمة كبيرة، تمثلت في الاهتمام والشغف الكبيرين اللذين قادا مساعيه للحفاظ على هذه النظم البيئية وزيادة رقعتها في الإمارة. كان أول مشروع لإعادة تأهيل أشجار القرم في دولة الإمارات يقع على طول الكورنيش الشرقي، حيث كانت هنالك مساحات طبيعية من أشجار القرمعلى الساحل ما جعل منها مواقع مثالية لإضافة المزيد من الأشجار من خلال برامج الزراعة.
كانت هذه الرقعة من غابات القرم في شرق أبوظبي هي الأولى التي تمت زراعتها في دولة الإمارات العربية المتحدة في العام 1966. وعلى مدى العقود التالية، توسعت برامج الزراعة وإعادة التأهيل على طول سواحل الإمارات العربية المتحدة، وحققت نجاحاً كبيرًا خصوصًا في المواقع المحميّة المتاخمة لغابات القرم الحالية.
واستمراراً لهذا الإرث، تولي دولة الإمارات اليوم أشجارَ القرم اهتمامًا كبيراً بوصفها أحد أبرز النظم البيئية الساحلية للكربون الأزرق. حيث تتواصل مساعي تأهيل أشجار القرم في جميع أنحاء دولة الإمارات العربية المتحدة وفي إمارة أبوظبي، حيث لا تزال مساحة أشجار القرم الطبيعية والمزروعة هي الأكبر في الدولة.
ما الذي يجعل أشجار القرم بالغة الأهمية للطبيعة والمناخ؟
يوجد في العالم ما بين 70 و75 نوعاً مختلفاً من أشجار القرم التي تتواجد في المناطق الاستوائية وشبه الاستوائية. ويوجد في أبوظبي نوعٌ واحد من أشجار القرم يعرف عالمياً باسم القرم الرمادي [أفيسينيا مارينا]، ينمو القرم الرمادي على طول شواطئ وسواحل البر الرئيسي والجزر.، ونظرًا لما تتمتع به جذور غابات القرم من كثافة وتعقيد فإنها تعد ملاذًا آمنًا لوضع البيض للأسماك، و بيئةً خصبة لنمو القشريات ومكانا غنيًا لتعشيش الطيور.
في واقع الأمر، نجحت أشجار القرم في تطوير أنماطَ تكيّف مميزةً للغاية، تمكنها من العيش والبقاء في ظل الظروف المناخية القاسية. حيث تمتلك آلية ترشيح متطورة لاستبعاد الأملاح وتنظيم الأيونات والتمثيل الضوئي وامتصاص العناصر الغذائية.
جدير بالذكر أن أشجار القرم تتعرض لتهديدات عدّة، منها مشاريع التطوير العقاري الساحلية، بما يتضمن ذلك من طمر للنفايات، والتجريف، واستصلاح الأراضي، ما يؤدي إلى إزالة أشجار القرم أو تغيير النظام الهيدروديناميكي في المنطقة الساحلية. كما قد تؤدي حركة القوارب في مناطق القرم إلى زيادة الانجراف والتآكل، ما لم يتم تنظيمها بشكل جيد.
لماذا يعدّ الحفاظ على أشجار القرم ذو أولوية بالغة؟
كما أشرنا في بداية هذا المقال، تعدّ غابات القرم من أكثر الأنظمة الطبيعية كفاءةً في امتصاص وتخزين الكربون من الغلاف الجوي. وبمجرد سقوط الأوراق والأشجار القديمة في قاع البحر، فإنها تحمل معها الكربون المخزن الذي يتم دفنه بعد ذلك في التربة. يُعرف هذا الكربون المدفون باسم "الكربون الأزرق"، إذ يتم تخزينه تحت الماء في النظم البيئية الساحلية، مثل غابات القرم والأعشاب البحرية والمستنقعات الملحية.
وفي دولة الإمارات العربية المتحدة، ثبت أن أشجار القرم تمثل أنظمة بيئية رئيسية للكربون الأزرق. إذ تعدّ مستويات عزل الكربون في تربة القرم على المستوى الإقليمي أعلى بكثير مما هي عليه في تربة المناطق القاحلة، ما يزيد من أهمية حماية هذه النظم البيئية الساحلية القيّمة، لضمان عدم إطلاق الكربون مرة أخرى إلى الغلاف الجوي. ولهذا السبب، حددت حكومة إمارة أبوظبي هدفاً يتمثل في حماية جميع الموائل البحرية والبرية الحيوية وضمان عدم فقدان المزيد من الموارد.
ومن المثير للاهتمام أن معدلات عزل الكربون الموجودة في دولة الإمارات أعلى نسبياً إذا ما قورنت بالمعدلات الأخرى المسجلة في جميع أنحاء شبه الجزيرة العربية. حيث تكشف الدراسات التي أجريناها في هيئة البيئة- أبوظبي قدرة أشجار القرم في أبوظبي على تخزين الكربون بمعدل 0.5 طن للهكتار الواحد سنوياً، أي ما يعادل 8750 طناً على مستوى الإمارة، بما يلبي استهلاك 1000 منزل من الطاقة سنوياً.
يوجد لدينا في إمارة أبوظبي حالياً ما يقدر بـ176 كيلومتراً مربعاً من أشجار القرم المزروعة والطبيعية، أي ما يعادل 17,600 هكتار من أشجار القرم. وهذا يعني قرابة 3 ملايين طن من الكربون المخزن حالياً في أشجار القرم في أبوظبي، أي ما يعادل الانبعاثات الكربونية المقدرة لـ1.3 مليون رحلة طيران ذهاباً وإياباً من أبوظبي إلى لندن، ويعادل استهلاك طاقة 1000 منزل في السنة.
أمّا بالنسبة لجميع النظم البيئية للكربون الأزرق في أبوظبي [المستنقعات الملحية، وأشجار القرم، والأعشاب البحرية، والسبخات، والطحالب]، فقد قُدِّر إجمالي الكربون المخزن فيها بنحو 41 مليون طن، أي ما يعادل الانبعاثات السنوية لـ8.9 مليون سيارة عادية.
وتسعى هيئة البيئة- أبوظبي جاهدة إلى الحفاظ على النظام البيئي وتجديده بشكل شامل، ولا تقتصر جهود الحماية والتجديد على أشجار القرم ولكنها تشمل جميع الموائل الساحلية والبحرية المترابطة فيما بينها. إذا سبق لك أن زرت منطقة أشجار القرم في أبوظبي، فستلاحظ أنها غالباً ما ترتبط بنظم المستنقعات الملحية والحصائر الميكروبية، كما قد توجد بالقرب من المياه الضحلة مروجُ الأعشاب البحرية والشعاب المرجانية التي تعتمد بطريقة أو بأخرى على وظيفة موائل المد والجزر المجاورة.
ولهذا السبب فإن نهجنا هو الحفاظ المتكامل على البيئة البحرية، آخذين في الاعتبار ترابط الموائل والأنواع جميعها مترابطة وحاجتها إلى بعضها البعض لتزدهر وتنمو. بعبارة أخرى، لا يتعلق الأمر فقط بأشجار القرم، بل أيضاً بالنظام البيئي الساحلي بأكمله الذي يستحق اهتمامنا واستثمارنا.
دعونا نتحدث عن أبوظبي
وفيما يتعلق بإمارة أبوظبي، فقد زادت مساحة غطاء أشجار القرم بنسبة 92% بين العامين 1987 و2022. حيث تتواجد أشجار القرم في أبوظبي في مناطق المد والجزر والبحيرات المحمية، ما يعني أن الإمارة تمتلك أكبر موائل لأشجار قرم في دولة الإمارات، تتركز غالبيتها على طول ساحل مدينة أبوظبي الشرقي.
توفر أشجار القرم في أبوظبي موائل حيوية لصغار الأسماك واللافقاريات بالإضافة إلى الطيور المائية المهاجرة والمقيمة. إذ يوجد ما لا يقل عن 74 نوعاً من الطيور التي تعيش بين أشجار القرم في أبوظبي.
وعلى الرغم من عدم وجود أنهار تضح المياه العذبة ودلتا الأنهار، إلا أن أشجار القرم لا تزال تنمو في أبوظبي في درجات حرارة عالية وملوحة عالية مقارنة بدول أخرى مثل بنغلادش وإندونيسيا التي تنمو فيها أشجار القرم في درجة حرارة 30 مئوية، ومستويات ملوحة تبلغ 32 جزء في الألف، في دلتا الأنهار.
ومن جهة أخرى، أثبتت أشجار القرم شعبيتها لدى السياح، حيث إنّ منتزه القرم الوطني ومتنزّه قرم الجبيل في أبوظبي يجتذبان آلاف الزوار كل عام، ما يساعد على رفع مستوى الوعي بضرورة حماية النظم البيئية لأشجار القرم.
مبادرة القرم - أبوظبي
خلال مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغير المناخ (كوب26) الذي استضافته غلاسكو، أعلنت دولة الإمارات العربية المتحدة عن خطة وطنية لزراعة 100 مليون شجرة قرم بحلول العام 2030. كما وضعت أبوظبي في فبراير 2022 خططاً طموحة لترسيخ مكانة الإمارة كمركز عالمي للبحوث والابتكار في الحفاظ على أشجار القرم من خلال مبادرة القرم- أبوظبي.
جاء ذلك خلال الزيارة التاريخية التي قام بها صاحب السمو الملكي الأمير وليم، أمير ويلزإلى دولة الإمارات العربية المتحدة حيث التقى سمو الشيخ خالد بن محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي. ورئيس مكتب أبوظبي التنفيذي في متنزّه قرم الجبيل. وتعد هذه المبادرة امتداداً لمشروع الكربون الأزرق، مع التركيز على أهمية خصائص عزل الكربون في أشجار القرم لمكافحة تغير المناخ والدور الحاسم الذي تؤديه في دعم التنوع البيولوجي.
يتم تنفيذ مبادرة القرم- أبوظبي من قبل هيئة البيئة– أبوظبي، وقد وقعت الهيئة بالفعل أولى شراكاتها مع جمعية علم الحيوان في لندن، وشركة جزيرة الجبيل للاستثمار، وشركة مبادلة للطاقة، فضلاً عن شراكات محلية وعالمية أخرى منتظرة قريباً.
تهدف المبادرة إلى أن تكون بمثابة مظلّة لجميع أنشطة البحث والابتكار في الحفاظ على أشجار القرم في الإمارة. وفي إطار المبادرة، تم تنظيم ما لا يقل عن 12 برنامج توعية منذ العام 2022، شاركت فيها الجهات المعنية من الحكومة والقطاع الخاص. تضمّن البرنامج برنامج لإعادة تأهيل أشجار القرم في الجبيل، والعديد من ورش العمل حول فوائد أشجار القرم وأهمية الحفاظ عليها.
بالإضافة إلى ذلك، وكجزء من هذه المبادرة، تعمل هيئة البيئة- أبوظبي بالتعاون مع شركائها على تطوير مشتلاً تعليميًا حديثًا ومركز ابتكار لأشجار القرم في جزيرة الجبيل، سيصبح بعد إطلاقه منصة رائدة للدراسات والبحوث المعنية بأشجار القرم.
منذ إطلاقها في العام 2022، جمعت المبادرة العديد من المهتمين تحت مظلتها سعياً إلى التوعية حول الحاجة إلى حماية وإعادة تأهيل أشجار القرم؛ ومن بين هؤلاء الشركاء شركة جزيرة الجبيل للاستثمار، ومبادلة للطاقة، ومجتمعات الداوودي البهرة، ووزارة الطاقة، وأدنوك، وSwim 62، ومجموعات شبابية، والسفارة البريطانية، وسفارة الفلبين، وسفراء مفوضية الاتحاد الأوروبي، إلى جانب العديد من الشركاء.
تعمل مبادرة القرم- أبوظبي كمركز محلي وإقليمي ودولي لجميع عناصر أبحاث أشجار القرم والحفاظ عليها، بما في ذلك استعادتها وتجديدها، وستجمع بين الباحثين والمعنيين الدوليين والإقليميين والوطنيين من خلال ورش عمل ومؤتمرات ودورات تدريبية.
الزراعة المبتكرة لأشجار القرم بواسطة الطائرات المسيّرة
ولأننا نسعى دائماً إلى استخدام التكنولوجيا المبتكرة والرائدة في جميع برامجنا لإعادة تأهيل وتعزيز وصون النظم البيئية، فقد حققنا نجاحاً كبيراً من خلال زراعة أشجار القرم بواسطة الطائرات المسيّرة.
فبالتعاون مع شركائنا، نثرت الطائرات المسيّرة، مليون بذرة قرم على مساحة تبلغ حوالي 4 كيلومترات مربعة. وتجري حالياً مراقبة الأشجار لتقييم معدلات نجاح الزراعة.
تحلّق الطائرات المسيّرة فوق مناطق المد والجزر، وتقوم بنثر البذور في المناطق الملائمة والتي تدعم نمو أشجار القرم. يعدّ هذا حلاً فعالاً من حيث التكلفة مقارنةً بزراعة الشتلات بالطرق التقليدية. ونظراً لانخفاض التكلفة، تستطيع هيئة البيئة- أبوظبي جمع البذور وإعادة زراعتها في مواقع مختلفة. كما إنّ استخدام المسيرات يتيح لنا الوصول إلى مناطق نائية، وتخفيض البصمة الإجمالية في الموقع.
غرس الإمارات
وفي الختام، فإن إحدى مبادراتنا الرائدة لتجديد أشجار القرم هي مبادرة "غرس الإمارات" التي أطلقتها الهيئة تحت رعاية سمو الشيخ حمدان بن زايد آل نهيان، ممثل الحاكم في منطقة الظفرة، ورئيس مجلس إدارة هيئة البيئة- أبوظبي. تنطوي المبادرة على المبادرة زراعة 10 أشجار قرم لكل زائر لمؤتمر (كوب 28) للمساهمة في تعزيز الحلول القائمة على الطبيعة لتغير المناخ، وتعزيز استعادة أشجار القرم وتجديدها على أسس علمية في جميع أنحاء الإمارة. وهذا مجرد مثال على إحدى مبادراتنا العديدة المتعلقة بأشجار القرم.
يمكنني التأكيد أننا، إذا واصلنا العمل على تحقيق إنجازاتنا وفق هذا المعدل الناجح، سنصل إلى أهدافنا الوطنية، وأهدافنا على مستوى الإمارة، المتمثلة في تجديد أشجار القرم في جميع أنحاء الإمارة، وضمان عدم فقدان المزيد من منظوماتها البيئية.
ندعو الجميع للانضمام إلى برنامج شراكة مبادرة القرم- أبوظبي، للتعرف على أشجار القرم والنظم البيئية الساحلية ودعمها، والمساهمة في الحفاظ عليها واستعادتها، حتى نتمكن معاً من تحقيق قدر أكبر من المرونة المناخية، وضمان حُسن استدامة إرثنا الطبيعي الثمين في المستقبل.
More to Read

أبوظبي, 10 فبراير 2022
خالد بن محمد بن زايد والأمير وليام يجتمعان في أبوظبي لمناقشة مبادرات الاستدامة
